مدخل الاحتياجات الإنسانية، والحرمان النسبي في تفسير الصراع
هاني سميرات
هذا المدخل يقوم على افتراض أن جميع البشر لديهم احتياجات أساسية يسعون لإشباعها وأن النزاعات تحدث وتتفاقم عندما يجد الإنسان أن احتياجاته الأساسية لا يمكن إشباعها أو أن هناك آخرين يعوقون إشباعها. ويفرق مؤيدوا هذه النظرية بين الاحتياجات والمتطلبات، ويرون أن عدم إشباع الأولى هو مصدر النزاعات وليس الثانية. على سبيل المثال، إن الحاجة للطعام هي احتياج أساسي ولكن تفضيل نوع معين من الطعام هو متطلب وليس احتياجاً. فالحاجات الأساسية لا بديل لها بينما المتطلبات يمكن أن نجد لها بديلا
وفقاً لهذا المدخل يمكن ملاحظة أن النزاعات تحدث عندما يشعر الفرد أو الجماعة بأن أحد هذه الاحتياجات المطلوبة والضرورية غير كافيه أو مشبعة ، إشباع هذه الاحتياجات الأساسية يساهم في اللجوء إلى استخدام العنف والقوة في حال لم تستطع الدولة تلبية هذه الاحتياجات ، وغالباً ما توصف هذه الصراعات بالصراعات العنيفة لأنها تشكل في جوهرها عامل البقاء والدفاع عن حق لا يمكن المساومة علية إطلاقاً .
إن هذا المدخل يرى أن التنكر للاحتياجات الجماعية سيفضي بصورة شبه مؤكدة إلى صراع اجتماعي فإنَه من باب الجبرية الحتمية الحسم بأن إسقاط احتياجات إنسانية لمجموعة إثنية سيُفضي، لا محالة، إلى وقوع مواجهة ضارية ترمي إلى تحقيق احتياجاتها
قام ماسلو بوضع بما يسمى هرمية الحاجات الانسانية حيث تتلخص هذه الحاجات كما يراها ماسلوا : الحاجات الفيسيولوجية كالماء والهواء والغذاء ، وحاجات الامان وحاجات التصور الذاتي كالثقه والسيادة والقوة ، إضافة إلى حاجات تحقيق الذات والحاجة إلى الطمأنينة والمحبة ، والتسامح وحاجات التصور الذاتي
تعتبر نظرية ماسلو أو جزئية منها ركيزة نظرية الحاجات البشرية التي جاء بها بورتون 1990 حيث تنطوي الحجة الأساسية لهذا التوجه على عدم إمكانية فض النزاع بشكل بناء ما لم يتم طرح الحاجات البشرية الأساسية الخاصة بالأطراف والتعامل معها لإرضاء كل طرف
والحاجات هي الأسباب وراء كل سلوك وكل إنسان له عدد من الحاجات تنافس بعضها، على أن الحاجة الأقوى أو الدافع الأقوى هو الذي سيحدد السلوك، فالحاجة الأقوى في وقت معين تؤدي إلى سلوك معين والحاجات المشبعة تنخفض في حدتها وغالباً ما لا تدفع الشخص ليحقق الأهداف المتوقعة منه، كما أن الحاجات التي يجد الشخص استحالة تحقيقها تضعف قوتها على مر الزمن
ربما يظن البعض أن سبب ظهور الصراع الى مرحلة المواجهة ، هي بدوافع الثأر ،أو الانتقام ، أو الخسارة ، أو موازين الربح والخسارة أو بسبب النظام السياسي، أو التوجه الفكري ، ولكن التحليل السليم والعميق لدوافع هذه الصراعات ربما يجد أن ضعف تلبيه هذه الاحتياجات الإنسانية هو العامل الحقيقي لنشوء هذه الصراعات وتطورها .
وعلى المستوى الدولي فإن الحدود والأمن جزء أساسي من مدخل الاحتياجات الإنسانية ، فقد نشبت عشرات الصراعات الدولية نتيجة قضايا الحدود والأمن ، مثل الصراع ما بين موريتانيا والسنغال ، الهند وباكستان ،الإكوادور ولبيرو ، اريتريا واثيوبيا ، وغيرها العديد من الصراعات التي أودت بحياة الملايين من البشر.
ويمكن ملاحظة أنه بالرغم من نزعة أطراف الصراع إلى الحرب المدمرة واستخدام القوة المفرطة في التعبير عن احتياجاتها إلا أن الكثير من هذه الصراعات وجدت طريقها إلى الحل وذلك بالتسوية السلمية عبر مجلس الأمن والوسطاء أو اللجوء إلى التحكيم، ويبذل المجتمع الدولي جهداً مضاعفاً في تسوية هذه الصراعات عبر الوسائل السلمية كالدبلوماسية الوقائية.
حتى بالنظر الى مسالة الحرمان النسبي في داخل المجتمع والتي ترى أن الصراع ينشأ نتيجة عدم توفر في حالة الرضا أو الإحساس بالحرمان لدى الشعوب خاصة في تلبية التوقعات والطموحات والإمكانيات للدولة فعادة ما تمر اﻟﻤﺠتمعات بمراحل ترتفع فيها مستويات التوقعات والتطلعات ، خاصة بعد الانتصار في حرب ،أو تغيير اجتماعي ،أو كارثة طبيعية . ويشير (Ted Gurr) أحد ابرز مؤسسي هذا التحليل أن التفاوت ما بين توقعات الشعوب وإمكانيات الدولة محرك أساسي وحقيقي للثورات المجتمعية ، فكلما زاد حجم التوقعات وضعفت حجم الموارد داخل الدولة كلما زادت التوجهات نحو الصراعات وعندما تتزايد التوقعات تتسع الهوة بين التوقعات والإمكانيات.
ويرى الدكتور محمد عبد الغفار أن مسالة الحرمان النسبي الذي تعاني منه بعض الدول والجماعات قد يكون من الأسباب الأساسية الهامة الداعية إلى التمرد على النظام النظام السياسي الدولي لأجل الحصول على المزايا والتسهيلات التي يكفلها لأعضائه الآخرين فحرمان الإنسان من حاجاته الأساسية كالأمن والرفاهية و العدالة في توزيع الموارد في ظل محدودية الموارد التي قد تستحوذ عليها الجماعات التي تسيطر على أجهزة الدولة وإشباع حاجاتها وأن إهمال الآخرين وتهميش المناطق الأقل ديناميكية يولد الإحباط ويخلق التوتر بين الجماعات المهمشة علمًا بأن هذه الأخيرة تمثل الأغلبية
على المستوى الدولي تعتبر الجغرافيا السياسية كجزء من مدخل الاحتياجات واحدة من أهم تفسيرات اللجوء إلى الحرب بين الدول ، إذ يعود مصطلح الصراع على الأرض إلى الفكر الكلاسيكي المتعلق بالعلاقات الدولية ، إذ تكتسب بعض الأراضي أهمية كبرى بحيث تضمن السيطرة عليها سيطرة على المصادر الأساسية لتلبيه الاحتياجات الإنسانية كالسيطرة على البحار او معابر التجارة الدولية أو الجزر الإستراتيجية كتلك الأراضي الواقعة ما بين أسيا وأوربا .
وبلا شك ان منع الصراعات العنيفة يتطلب معالجة الظروف الكامنة وغير المرئية الدافعة للصراع كالفقر، وعدم الإنصاف في توزيع المصادر والإقصاء الجماعي، وعدم اكتراث الدولة بالاحتياجات الإنسانية الرئيسية كما هو الحال في دول إفريقيا ، أو بعض الدول العربية التي تشهد صراعات عنيفة نتيجة الأنظمة الدكتاتورية التي عمدت إلى الاستئثار بكافة موارد الدولة لنفسها دون الاهتمام بالطبقات المعدومة والفقيرة.
كما قد توجد عوامل أخرى تحد من قدرة الدولة على الإستجابة لمطالب الجماعات كالفقر وندرة الموارد والنمو السكاني المتزايد، فتتولد العداوة بسبب التنافس على تلك الموارد، كما تتأثر علاقة الدولة بالنظام الدولي في تلبية الحاجات الأساسية حيث أن الإعتماد على النظام الإقتصادي الدولي يحد من حرية الدولة ويعيد صياغة النظم الإقتصادية الداخلية من خلال تراكمات رأس المالي الدولي والمحلي. وأن التغيرات التي طرأت على إقتصاديات الدول في نهاية عقد الثمانينات خلقت نوعًا من عدم الإستقرار السياسي كما أن لسياسات التكييف الهيكلي دورًا كبيرًا خاصةً في الدول الفقيرة
ويرى البعض بأن التمرد يحدث عندما تتوفر الفرص الملائمة للنشوء والمتمثلة في توفير الموارد وبالتالي تحتاج إلى دعم كبير لسد هذه الاحتياجات مما يتطلب نشوب نزاعات وحروب داخلية وخارجية كما هو المثال في كثير من دول العالم مثل افريقيا وآسيا وامريكا
ولاحظ علماءالاقتصاد أن الدول ذات الدخل المرتقع تقل فيها إحتمالات نشوب ووجدوا أن الدول التي تعاني من الصراعات بلغ مستوى الدخل فيها مستوى منخفض جداً لا يسد احتياجات المواطنين كما أن الدخل المرتفع يزيد من قوة الدولة نتيجة لارتفاع ضريبة الدخل مما يمكن الحكومة من إستخدام الضرائب لتقوية نفسها عسكريًا لمواجهة التمرد كما أنه يتيح فرص للشباب للإلتحاق بالتعليم الثانوي الذي يعتبر سببًا مهمًا لاستقرار الدول بدلا من الإلتحاق بالتمرد
وفى تفسيره للصراع، يقول "فلوجل" بأن الدول التي تحقق فيها الحاجات الأساسية لشعوبها بصورة معقولة تكون أقل استعداداً من الناحية السيكولوجية للصراع والحرب من تلك الدول التى يسيطر على شعوبها الشعور بعدم الرضا أو الضيق. أما أريك فروم فيقول بأن " العنف والميل إلى التدمير إنما يمثلان الناتج التلقائي والحتمي للشعور بالإحباط الذي ينشأ عن الصدمة الناتجة عن خذلان الآمال والتطلعات القومية لسبب أو لآخر".
يمكن للمختصين ملاحظة أن كثيراً من العلماء اهتموا بموضوع المصالح وحاجات الإنسان بصورة كبيرة في إطار فهم أعمق لمداخل الصراع. وكانت غاية العلماء في ذلك لا تقتصر على وضع حد للصراعات فحسب وإنما أيضاً تحديد وتوجيه المصالح والاحتياجات الأساسية التي تقوم عليها كيان المجتمعات لتكون محمية بقوة العدالة وتلبية لاحتياجات الفرد والمجتمع .
فمثلا في بحثه التحليلي حول طبيعة هذه النظرية يرى Ramashray Roy ان هذه النظرية تقوم على جعل الإنسان الفرد هو الوحدة الرئيسية للتحليل. وذلك لأنها ترى أن الحل الجذري للصراعات يتمثل في تلبية الحاجات الأساسية للإنسان. صحيح أن وسائل تلبية الحاجات قد تختلف من ثقافة ومن بيئة إلى أخرى، إلا أن عدم القدرة على سد الحاجات أو تلبيتها بطريقة غير مرضية هما السببان الجوهريان للصراع في المجتمع البشري.
في هذاالصدد يقول ROYأن حاجة الفرد ليس القصد منها ترضيته فحسب، وإنما هي مهمة لأنها تحدد الشروط الضرورية لبقاء المنظمات الاجتماعية في انسجام في كل مستوياتها المحلي والدولي. أي أن التركيز على حاجة الإنسان كوحدة رئيسية للتحليل، أن كل نـزاع ينشأ يحمل في طياته قضية تلبية الحاجات لأن النـزاع ينشأ بسبب فشل طرف معين في رعاية تلك الحاجات، أو بكونها لم تلب بطريقة مرضية.
وهنا ارى أن الاحتياجات الإنسانية تبدو أكثر وضوحا في حالات الصراعات العنيفة والمسلحة إذ تترك هذه الصراعات آثاراً مدمرة على حياة البشر تصعب السيطرة عليها ، وكلما قامت الدولة بسد هذه الاحتياجات كلما ساهمت في كبح جماح الصراع وأثاره السلبية ، ومهما يكن دوافع الصراع إلا أن مدخل الاحتياجات الإنسانية يتفاقم بشكل كبير في حالات الحروب ، وتشكل هذه الاحتياجات فرصة للانتقام أو الثأر أو التحول إلى استخدام العنف ، فيصبح عامل الوجود والبقاء هو الدافع الحقيقي لأية ممارسات ممكنة مهما كان شكلها .
هذه المادة جزء من رسالة ماجستير حول : مداخل ومناهج دراسة الصراع دراسة مقارنه بين الرؤية الاوروبية والامريكية/ للباحث هاني سميرات /2016 / جامعة القدس